مايو 14, 2025

الحكم الذاتي ما بين مداخل الثقافة،حقوق الانسان و المصالحة الوطنية..

 

الفجر الجديد:

 

الجزء الرابع ضمن سلسلة مقالات تتناول موضوع:
*”مداخل تنزيل مبادرة الحكم الذاتي المغربية بالصحراء”*.
للكاتب د. مولاي بوبكر حمداني، رئيس مركز التفكير الإستراتيجي والدفاع عن الديمقراطية..

 

 

استكمالا لنشر الورقة المرجعية التي أعدها الدكتور مولاي بوبكر حمداني، المتخصص في العلاقات الدولية ورئيس مركز التفكير الإستراتيجي والدفاع عن الديمقراطية، على أجزاء، وتحت عنوان: “مداخل تنزيل مبادرة الحكم الذاتي المغربية بالصحراء”.

 

حيث تناول في الأجزاء السابقة المداخل: الأممي، الدبلوماسي والسياسي، القانوني والتنموي.

 

نضع بين يدي القراء الجزء الرابع الذي يتناول مداخل الثقافة، حقوق الإنسان والمصالحة.

 

المدخل الثقافي: تثمين الهوية الحسانية كرافد أساسي للهوية الوطنية المتعددة

 

من المسلم به أن المدخل الثقافي بعداً جوهرياً وحساساً في أي مقاربة تهدف إلى تنزيل الحكم الذاتي بالصحراء، نظراً للعمق التاريخي والخصوصية المتميزة للمجتمع الصحراوي وثقافته الحسانية العريقة، التي تشكل بوتقة انصهرت فيها روافد عربية وأمازيغية وإفريقية، وتجلت في لغة (اللهجة الحسانية) وأدب (الشعر الحساني “لغن”) وموسيقى وفنون ونمط عيش وعادات وتقاليد ونظام اجتماعي متفرد.

الأمر الذي لا يدع مجالاً للشك إن أي حل سياسي، لكي يحظى بالقبول والشرعية، يجب أن يعترف بهذه الخصوصية الثقافية، وأن يضمن حمايتها وتثمينها وتعزيزها، ليس ككيان منفصل أو منغلق، بل كجزء لا يتجزأ ومكون أساسي من الهوية الوطنية الغنية بتعدد روافدها وتنوع مكوناتها، كما أكدت على ذلك بوضوح ديباجة دستور 2011 التي تحتفي بالرافد الصحراوي الحساني إلى جانب الروافد الأخرى (العربية الإسلامية، الأمازيغية، الإفريقية، الأندلسية، العبرية، المتوسطية) التي شكلت الهوية الموحدة.

وإذا كانت مبادرة الحكم الذاتي في جوهرها تهدف إلى تمكين سكان المنطقة من تدبير شؤونهم بأنفسهم في إطار السيادة المغربية، فإن هذا يشمل بالضرورة، وبشكل أساسي، الشأن الثقافي والهوياتي لذلك يجب أن ينص نظام الحكم الذاتي والقانون التنظيمي المطبق له، على صلاحيات واضحة ومحددة للهيئات الجهوية المنتخبة (البرلمان والحكومة الجهويين) في مجال الثقافة، بحيث تشمل هذه الصلاحيات، على سبيل المثال لا الحصر:

الحفاظ على التراث المادي واللامادي الحساني وحمايته وتوثيقه وتثمينه (المواقع الأثرية، الخيام التقليدية، الحرف اليدوية، الشعر الشفهي، الموسيقى، الرقصات، الأمثال، الحكايات الشعبية، المخطوطات)؛ دعم وتشجيع الإبداع الفني والأدبي باللهجة الحسانية في مختلف المجالات (الشعر، الرواية، المسرح، السينما، الفنون التشكيلية)؛

العمل على إدماج الثقافة والتاريخ المحليين للمنطقة في المناهج التعليمية على المستوى الجهوي، بما يعزز معرفة الأجيال الجديدة بتراثها؛ دعم وسائل الإعلام المحلية، المكتوبة والمسموعة والمرئية والرقمية، الناطقة باللهجة الحسانية أو المهتمة بالشأن الثقافي الحساني؛

تنظيم المهرجانات والتظاهرات الثقافية والفنية التي تحتفي بالموروث الحساني الغني وتعرف به على الصعيدين الوطني والدولي؛ وإنشاء وإدارة المؤسسات الثقافية الجهوية (متاحف، مكتبات، مراكز ثقافية، معاهد موسيقية وفنية).

من الأهمية بمكان التنويه الى أن الدولة قد اتخذت بالفعل خطوات مهمة في هذا الاتجاه، مثل إحداث قناة العيون الجهوية التي تبث برامج متنوعة باللهجة الحسانية، ودعم العديد من المهرجانات الثقافية الكبرى (مهرجان طانطان المصنف تراثاً عالمياً لامادياً من قبل اليونسكو، مهرجان السمارة، وغيرها)، ودعم الجمعيات المدنية النشطة في المجال الثقافي الحساني، والاهتمام الرسمي المتزايد بالتراث الشفهي الحساني وتوثيقه، بالإضافة إلى الترسيم الدستوري للغة الأمازيغية إلى جانب العربية، مما يعكس التزام الدولة بالتنوع الثقافي واللغوي كمصدر غنى وقوة للمغرب.

وموجز القول هو إنه اذا كان تنزيل الحكم الذاتي سيوفر لاحقا الإطار المؤسسي والقانوني الأمثل لتعميق هذه الجهود وجعلها أكثر منهجية وفعالية، بحيث تصبح الهيئات الجهوية هي الفاعل الرئيسي في رسم وتنفيذ السياسات الثقافية المحلية، بالتشاور والتكامل مع السياسات الوطنية، فإنه لا يجب أن يُنظر إلى الثقافة الحسانية ليس فقط كإرث تاريخي يجب الحفاظ عليه من الاندثار، بل أيضاً كرافعة للتنمية المحلية (من خلال السياحة الثقافية والصناعات الثقافية والإبداعية) وعامل أساسي لتعزيز التماسك الاجتماعي والحوار الثقافي وبناء جسور التفاهم بين مختلف مكونات المجتمع في الجهة، وتقوية الشعور بالانتماء الوطني المبني على الاعتراف المتبادل والاحترام العميق للتنوع ضمن الوحدة.

 

المدخل الحقوقي: ضمان الكرامة، تعزيز الحريات، وترسيخ سيادة القانون

 

لاعتبارات متعددة تتقاطع فيها الأبعاد القانونية والأخلاقية والسياسية يكتسي المدخل الحقوقي أهمية محورية في عملية تنزيل مبادرة الحكم الذاتي من هنا بات ضمان وحماية حقوق الإنسان لجميع سكان الصحراء دون أي تمييز التزاماً قانونياً دولياً ووطنياً راسخاً للمغرب.

هذا الالتزام نبع من المقتضيات المتقدمة لدستور 2011، الذي كرس باباً كاملاً (الباب الثاني) للحريات والحقوق الأساسية، وأكد على سمو الاتفاقيات الدولية المصادق عليها على التشريعات الوطنية، وكذا عضوية المملكة في منظومة الأمم المتحدة، ومصادقتها على جل الاتفاقيات الدولية الرئيسية لحقوق الإنسان (مثل العهدين الدوليين الخاصين بالحقوق المدنية والسياسية وبالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، واتفاقية مناهضة التعذيب، واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، وغيرها).

ومن جهة أخرى شكل تعزيز وحماية حقوق الإنسان على أرض الواقع في الأقاليم الجنوبية عنصراً جوهرياً لبناء جسور الثقة مع الساكنة المحلية، بما في ذلك أولئك الذين قد يحملون آراءً مختلفة، ومع المجتمع الدولي وهيئاته الحقوقية.

ومما لا شك فيه ان سجلا حقوقيا إيجابيا وموثوقا سيساهم بشكل كبير في تعزيز مصداقية المبادرة المغربية ويفند الادعاءات والمغالطات التي تسعى بعض الجهات لترويجها واستغلال ملف حقوق الإنسان لخدمة أجندات سياسية معادية تسعى لتعطيل هذا المقترح.

ومن ناحية ثالثة يجب أن يكون نظام الحكم الذاتي المقترح بحد ذاته إطاراً مؤسساتياً وقانونياً ضامناً ومُعززاً لحقوق الإنسان داخل الجهة، بحيث تتمتع هيئاته (التشريعية والتنفيذية والقضائية المحلية) بالصلاحيات والآليات اللازمة لضمان احترام الحقوق والحريات الأساسية لجميع المواطنين الخاضعين لولايتها.

لا يخفى على أحد أن المغرب قد قطع أشواطاً معتبرة في هذا المجال خلال العقدين الأخيرين، من خلال سياسة إصلاحية متدرجة شملت تعزيز الإطار القانوني والمؤسساتي لحماية حقوق الإنسان، وإنشاء المجلس الوطني لحقوق الإنسان كمؤسسة وطنية مستقلة تتمتع بالاعتماد الدولي (وضع “أ”)، وتفعيل لجانه الجهوية في العيون والداخلة التي تلعب دوراً هاماً في الرصد والتوعية ومعالجة الشكايات، ومن الثابت أيضا تفاعل المغرب الإيجابي والبناء مع آليات الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، بما في ذلك الإجراءات الخاصة لمجلس حقوق الإنسان (زيارات المقررين الخاصين) والاستعراض الدوري الشامل، والرد على المراسلات وتقديم التقارير الدورية.

وعطفا على ما سلف تجدر الإشارة الى ان الأقاليم الجنوبية بدورها شهدت دينامية ملحوظة في مجال ممارسة الحريات العامة، حيث ينشط عدد كبير من الجمعيات المدنية، وتُنظم وقفات احتجاجية وتجمعات للتعبير عن مختلف المطالب، حتى تلك التي تتبنى مواقف معارضة للموقف الرسمي المغربي، وهو ما عكسه بدرجات متفاوتة تقارير المنظمات الدولية وبعض الدول.

مما تقدم يظهر أن تنزيل الحكم الذاتي يتطلب مواصلة هذه الجهود وتعميقها، من خلال:

ترسيخ ثقافة حقوق الإنسان لدى جميع الفاعلين، وخاصة الموظفين المكلفين بإنفاذ القانون والقضاة؛ ضمان استقلالية وحيادية القضاء المحلي الذي سيتم إنشاؤه في إطار الحكم الذاتي وتعزيز ضمانات المحاكمة العادلة؛

توفير آليات رقابة وتظلم فعالة ومستقلة ومتاحة للجميع داخل الجهة؛ ضمان الحماية الكاملة للحقوق الثقافية واللغوية للمكون الحساني كمجموعة ذات خصوصية؛

ومواصلة معالجة الإرث المتعلق بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي قد تكون وقعت في الماضي من كلا الطرفين، في إطار مقاربة شاملة للعدالة الانتقالية تجمع بين كشف الحقيقة وجبر الضرر الفردي والجماعي والمساءلة (مع مراعاة مقتضيات المصالحة) وضمانات عدم التكرار، استلهاماً للمبادئ التي أرستها تجربة هيئة الإنصاف والمصالحة.

ومجمل القول إن بناء ثقافة وممارسة راسخة لسيادة القانون واحترام حقوق الإنسان في الأقاليم الجنوبية ليس فقط واجباً قانونياً وأخلاقياً، بل هو اختيار واستثمار في بناء مجتمع ديمقراطي ومستقر، قادر على احتضان مشروع الحكم الذاتي وضمان نجاحه.

 

المدخل المرتبط بالمصالحة:

تجاوز إرث الماضي، بناء الثقة، وتأسيس العيش المشترك

 

لا ريب في أي حل سياسي أو تسوية قانونية، مهما كانت متقدمة ومتقنة، أن لا يمكن أن تحقق سلاماً حقيقيا ما لم تترافق وتتأسس على عملية مصالحة وطنية ومجتمعية شاملة، تهدف إلى تضميد جراح الماضي الأليم، وتجاوز الانقسامات والصراعات التي خلفها النزاع، وإعادة بناء جسور الثقة المفقودة، وتأسيس مستقبل مشترك قائم على الاعتراف المتبادل والاحترام والتسامح والعيش المشترك بين جميع مكونات المجتمع في الصحراء، وبينهم وبين باقي مكونات الأمة المغربية.

ومن المسلم به ان نزاع الصحراء الذي امتد لعقود قد خلف آثاراً إنسانية واجتماعية ونفسية وسياسية عميقة على النسيج المجتمعي، سواء داخل الأقاليم الجنوبية أو بشكل خاص ومأساوي في مخيمات تندوف فوق التراب الجزائري، وترك إرثاً من المعاناة والضغائن والمظالم المتبادلة يتطلب معالجة شجاعة وحكيمة ومتأنية.

ويتوقع من مدخل المصالحة خلق الظروف الملائمة والمناخ النفسي والاجتماعي المواتي لطي صفحة الماضي بكل تعقيداته، والتوجه نحو المستقبل بروح من التفاؤل والأمل المشترك بحيث تتضمن عملية المصالحة هذه أبعاداً متعددة ومتشابكة:

أولاً، معالجة قضية المحتجزين في مخيمات تندوف، من خلال تسهيل عودتهم الطوعية والآمنة والكريمة إلى وطنهم الأم المغرب، وضمان إعادة اندماجهم السلس والكامل في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وتوفير الدعم اللازم لهم للتغلب على الصعوبات التي قد تواجههم.

ثانياً، معالجة الإرث المتعلق بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي قد تكون ارتكبت في الماضي من قبل مختلف الأطراف المتورطة في النزاع (بما في ذلك الاختفاء القسري، والاعتقال التعسفي، والتعذيب، والإعدامات خارج نطاق القضاء، وغيرها)، ويتطلب ذلك تفعيل آليات العدالة الانتقالية (Transitional Justice) التي تجمع بين الحق في معرفة الحقيقة (Truth)، والحق في جبر الضرر للضحايا وعائلاتهم (Reparation)، والحق في المساءلة والمحاسبة (Accountability) للمسؤولين عن الانتهاكات الجسيمة (مع مراعاة ضرورات السلم الاجتماعي ومتطلبات عدم الإفلات من العقاب في الجرائم الدولية)، والحق في الإصلاحات المؤسسية لضمان عدم تكرار الانتهاكات في المستقبل (Guarantees of Non-recurrence) .

انطلاقاً من الاعتبارات السابقة راكم المغرب تجربة رائدة ومشهوداً لها دولياً في مجال العدالة الانتقالية من خلال عمل هيئة الإنصاف والمصالحة بين عامي 2004 و2005، التي تناولت ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في المغرب بين عامي 1956 و1999، ويمكن الاستلهام بشكل كبير من منهجية هذه الهيئة وآلياتها وتوصياتها في بلورة مقاربة للمصالحة خاصة بسياق نزاع الصحراء، تأخذ بعين الاعتبار خصوصيات هذا النزاع وتحدياته.

ثالثاً، حفظ الذاكرة الجماعية (Collective Memory) بكل تناقضاتها وتعدد رواياتها، ليس بهدف إثارة النعرات، بل بهدف استخلاص العبر والدروس من الماضي وتكريم الضحايا ومنع النسيان، من خلال إنشاء متاحف أو نصب تذكارية أو أرشيفات تاريخية، وتشجيع البحث العلمي والتاريخي النزيه حول فترة النزاع.

رابعاً، تعزيز الحوار المجتمعي وبناء الثقة على المستوى المحلي، من خلال تنظيم لقاءات حوار بين مختلف مكونات المجتمع الصحراوي، بما في ذلك العائدون من تندوف، وتشجيع المبادرات المحلية للمصالحة والتسامح التي يقودها المجتمع المدني والزعمات التقليدية من شيوخ القبائل، والشخصيات الدينية، والنسائية، والشبابية.

خامساً، يجب أن تشمل المصالحة أيضاً البعد النفسي والاجتماعي، من خلال توفير برامج الدعم النفسي والاجتماعي للضحايا وعائلاتهم، ومساعدتهم على تجاوز الصدمات النفسية المرتبطة بالنزاع والعنف، إن تحقيق المصالحة ليس عملية سهلة أو سريعة، ولا يمكن فرضها من فوق، بل هي مسار طويل وشاق ومعقد، يتطلب إرادة سياسية قوية وصادقة من أعلى المستويات، ومشاركة واسعة من جميع فئات المجتمع، وصبراً ومثابرة والتزاماً من الجميع، ولكنه يبقى شرطاً ضرورياً وأساسياً لتحويل اتفاق الحكم الذاتي من مجرد تسوية سياسية أو قانونية فوقية إلى عقد اجتماعي جديد ومتين، يرتكز على قناعة ورضى وقبول جميع مكونات المجتمع، ويطوي صفحة الماضي الأليم بكل مآسيه، ويفتح آفاقاً واعدة لمستقبل يسوده السلام والعدل والتعايش والتنمية المشتركة لجميع أبناء الصحراء في ظل مغرب موحد، قوي، ديمقراطي، ومتصالح مع ذاته ومع تاريخه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *